* سلسلة مواعظ للدعاة *
3 مشترك
* سلسلة مواعظ للدعاة *
الحمد لله و الصلاة و السلام على أفضل خلق الله
وبعد اخي الفاضل اختي الفاضلة
فمع الموعظة الثامنة
التعريف قبل التكليف
- مرحلة التعريف من أهم المراحل وأخطرها، لأنه إذا أحسن الداعي تقديم الدعوة والتعريف بها تفتَّحت كثير من قلوب الناس لها .
- الداعي لا يستطيع أن يلزم الناس بما يحمل، إنما يقنعهم بما يقول، والإقناع يحتاج إلى حسن العرض وبساطة القول وتوضيح الفهم، وتعريف بالدعوة قبل أن يكلفهم بأي شيء أو يُحَمِّلهم أية مسؤولية .
- قال الله - تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (19) سورة محمد .
نلاحظ في الآية أن التكليف قد سبقه التعريف بالله أولا ثم العمل تكليفاً، وهل يستغفر الله مستغفر إلا إذا عرف الله ؟.والقرآن الكريم نزل في بداية الأمر ليعرف الناس بأمور أربعة قبل أن يكلفهم بأي أمر، وهي :
1- عرّفهم بربهم ليعبدوه .
2- عرّفهم بأنفسهم ليبصروا حقيقة وجودهم .
3- عرّفهم بالكون ليسخروه ويعمروه .
4- عرّفهم بالمصير الذي ينتظرهم في أخراهم .
- إن الإنسان المدعو إذا عرف من هو الله - تعالى - فإنه سيوقر أمره، حتى في دقائق الأمور.عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ، فَوْقَ صَوْتِ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2 ] قَعَدَ ثَابِتٌ فِي الطَّرِيقِ يَبْكِي، فَمَرَّ بِهِ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا ثَابِتُ ؟ قَالَ: أَنَا رَفِيعُ الصَّوْتِ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا بُنَيَّ، أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا، وَتُقْتَلَ شَهِيدًا، وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ ؟ " قَالَ: رَضِيَتُ بِبُشْرَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَا أَرْفَعُ صَوْتِي أَبَدًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (3) سورة الحجرات. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ (¬1) .
- إذا مرض إنسان وذهب إلى الطبيب الذي يعرف مهارته، فإن قال له الطبيب افعل كذا أو كذا، أولا بد من قطع يدك أو رجلك، فإن المريض سيوافق، لأنه عرف الطبيب ومهارته، فكيف إذا عرف المدعو عظمة الله - تعالى - وكماله وقوته وحكمته ؟!
- التعريف بالدعوة والصبر عليها في غاية الأهمية ليصبح عندنا الفرد الذي يسارع إلى أوامر الله - تعالى - دون كسل أو ملل، ولنا في قصص الأنبياء والرسل - عليهم السلام - أوضح العبر.فسيدنا إبراهيم - عليه السلام - أمره الله- تعالى - أن يسكن ذريته بواد غير ذي زرع عند البيت الحرام، وسيدنا إسماعيل - عليه السلام - حين رأى أبوه في المنام أنه يذبحه قال: { يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (102) سورة الصافات، وأم موسى - عليهما السلام - ألقت طفلها في اليم حين خافت عليه طاعةً لأمر الله - تعالى - وما ترددت .
- إن التعريف الحق يؤدي إلى الطاعة، أي أن الطاعة ثمرة المعرفة، فها هن الصحابيات يسارعن إلى أمر الله في اللباس بعد أن عرفن الله، فعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ,"قَالَتْ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَذَكَرَتْ نِسَاءَ قُرَيْشٍ وَفَضْلَهُنَّ, فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ لِنِسَاءِ قُرَيْشٍ لَفَضْلا, وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ أَشَدَّ تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ, وَلا إِيمَانًا بِالتَّنْزِيلِ لَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ: " وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ " انْقَلَبَ رِجَالُهُنَّ إِلَيْهِنَّ يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِنَّ فِيهَا, وَيَتْلُو الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ, وَعَلَى كُلِّ ذِي قَرَابَتِهِ, مَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلا قَامَتْ إِلَى مِرْطِهَا الْمُرَحَّلِ فَاعْتَجَرَتْ بِهِ تَصْدِيقًا وَإِيمَانًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابِهِ, فَأَصْبَحْنَ يُصَلِّينَ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ مُعْتِجِرَاتٍ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ" (¬2) .
وها هم الصحابة يسارعون إلى إراقة الخمور بعد أن أمرهم الله - سبحانه - فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}، قَالَ: فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَقَامَ الصَّلاةَ نَادَى: أَنْ لاَ يَقْرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكْرَانُ فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا (¬1) .
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّى بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ خَلَعُوا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ :« مَا لَكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ؟ ». قَالُوا: رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا. قَالَ :« إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَخْبَرَنِى أَنَّ بِهِمَا قَذَرًا - فَقَالَ - إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى نَعْلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذًى أَوْ قَالَ قَذَرًا فَلْيُمِطْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا » (¬2) .
ومواقف الصحابة كثيرة، فعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لَقَدْ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ مَشْهَدًا لأَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ رَجُلاً فَارِسًا، قَالَ: فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا نَبِيَّ اللهِ، وَاللَّهِ لاَ نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى - صلى الله عليه وسلم - : {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، وَلَكِنْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَكُونَنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَمِنْ خَلْفِكَ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ " (¬3) .
وعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، فَبَعْضُهُمْ قَدْ حَدَّثَ بِمَا لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ بَعْضٌ، وَقَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ فِيمَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ، قَالُوا: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا مِنْ قُرَيْشٍ تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّامِ فِيهِمْ: مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ لَهُمْ: " هَذَا أَبُو سُفْيَانَ قَافِلًا بِتِجَارَةِ قُرَيْشٍ، فَاخْرُجُوا لَهَا لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَفِّلُكُمُوهَا "، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُسْلِمُونَ، فَخَفَّ مَعَهُ رِجَالٌ وَأَبْطَأَ آخَرُونَ، وَذَلِكَ إِنَّمَا كَانَتْ نَدْبَةً لِمَالٍ يُصِيبُونَهُ لَا يَظُنُّونَ أَنْ يَلْقَوْا حَرْبًا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ وَنَيِّفٍ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ مُشَاةٌ، مَعَهُمْ ثَمَانُونَ بَعِيرًا وَفَرَسٌ، وَيَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ لِلْمِقْدَادِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ وَمَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ بَعِيرٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نَقْبِ بَنِي دِينَارٍ مِنَ الْحَرَّةِ عَلَى الْعَقِيقِ، فَذَكَرَ طُرُقَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِعِرْقِ الظَّبْيَةِ لَقِيَ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ، فَسَأَلُوهُ عَنِ النَّاسِ، فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهُ خَبَرًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ دَنَا مِنَ الْحِجَازِ يَتَحَسَّسُ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُ عَنْهَا حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ، فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ، فَبَعَثَهُ إِلَى قُرَيْشٍ يَسْتَنْفِرُهُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ، فَخَرَجَ ضَمْضَمٌ سَرِيعًا حَتَّى قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اللَّطِيمَةَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ - وَالَلَّطِيمَةُ هِيَ التِّجَارَةُ - الْغَوْثَ الْغَوْثَ، وَمَا أَظُنُّ أَنْ تُدْرِكُوهَا.فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: أَيَظُنُّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهَا كَائِنَةٌ كَعِيرِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فَخَرَجُوا عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهَا أَحَدٌ، إِلَّا أَنَّ أَبَا لَهَبٍ قَدْ تَخَلَّفَ وَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ مُقَاتِلًا، وَمَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ يَقُودُونَهَا، وَخَرَجُوا مَعَهُمْ بِالْقِيَانِ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، وَيَتَغَنَّيْنَ بِهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَسْمَاءَ الْمُطْعِمِينَ مِنْهُمْ، وَذَكَرَ رُجُوعَ طَالِبِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْجُحْفَةِ رَأَى جُهَيْمُ بْنُ الصَّلْتِ رُؤْيَا فَبَلَغَتْ أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ: وَهَذَا نَبِيٌّ آخَرُ مِنْ بَنِيِّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى أَنَّ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى قُرَيْشٍ مَعَهُ بَعِيرٌ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْعَسْكَرِ فَقَالَ: قُتِلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، يُعَدِّدُ رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ طَعَنَ فِي لَبَّةِ بَعِيرِهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَلَمْ يَبْقَ خِبَاءٌ مِنْ أَخْبِيَةِ قُرَيْشٍ إِلَّا أَصَابَهُ دَمُهُ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ، فَذَكَرَ مَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الصَّفْرَاءِ بَعَثَ بَسْبَسَ بْنَ عَمْرٍو وَعَدِيَّ بْنَ أَبِي الزَّغْبَاءِ الْجُهَنِيَّيْنِ يَلْتَمِسَانِ الْخَبَرَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، فَانْطَلَقَا حَتَّى وَرَدَا بَدْرًا، فَأَنَاخَا بَعِيرَيْهِمَا إِلَى تَلٍّ مِنَ الْبَطْحَاءِ وَاسْتَقَيَا فِي شَنٍّ لَهُمَا مِنَ الْمَاءِ، فَسَمِعَا جَارِيَتَيْنِ تَقُولُ إِحْدَاهُمَا لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا تَأْتِي الْعِيرُ غَدًا، فَلَخَّصَ بَيْنَهُمَا مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو وَقَالَ: صَدَقَتْ، وَسَمِعَ ذَلِكَ بَسْبَسٌ وَعَدِيٌّ، فَجَلَسَا عَلَى بَعِيرَيْهِمَا حَتَّى أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ، وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ وَلَّيَا وَقَدْ حَذِرَ، فَتَقَدَّمَ أَمَامَ عِيرِهِ فَقَالَ لِمَجْدِيِّ بْنِ عَمْرٍو: هَلْ أَحْسَسْتَ عَلَى هَذَا الْمَاءِ مِنْ أَحَدٍ تُنْكِرُهُ ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، إِلَّا أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَاكِبَيْنِ أَنَاخَا إِلَى هَذَا التَّلِّ فَاسْتَقَيَا فِي شَنٍّ لَهُمَا ثُمَّ انْطَلَقَا، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ مَنَاخَ بَعِيرَيْهِمَا فَأَخَذَ مِنْ أَبْعَارِهِمَا وَفَتَّهُ فَإِذَا فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ عَلَائِفُ يَثْرِبَ، ثُمَّ رَجَعَ سَرِيعًا فَضَرَبَ وَجْهَ عِيرِهِ فَانْطَلَقَ بِهَا مُسَاحِلًا، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدْ أَحْرَزَ عِيرَهُ بَعَثَ إِلَى قُرَيْشٍ أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَجَّى عِيرَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَرِجَالَكُمْ فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَأْتِيَ بَدْرًا - وَكَانَتْ بَدْرٌ سُوقًا مِنْ أَسْوَاقِ الْعَرَبِ - فَنُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا، فَنُطْعِمَ بِهَا الطَّعَامَ، وَنَنْحَرَ بِهَا الْجُزُرَ، وَنَسْقِيَ بِهَا الْخَمْرَ، وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعَ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا بَعْدَهَا أَبَدًا.قَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ: يَا مَعْشَرَ بَنِي زُهْرَةَ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَجَّى أَمْوَالَكُمْ، وَنَجَّى صَاحِبَكُمْ، فَارْجِعُوا.فَأَطَاعُوهُ فَرَجَعَتْ زُهْرَةُ فَلَمْ يَشْهَدُوهَا، وَلَا بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَذَكَرَ مَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ وَادِي ذَفَارٍ نَزَلَ وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنهم - فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ، فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ.فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مَنْ دُونَهُ حَتَّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْرًا وَدَعَا لَهُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ " وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَدَدُ النَّاسِ، وَكَانُوا حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذِمَمِنَا، نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ
مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّفُ أَنْ لَا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى أَنَّ عَلَيْهَا نُصْرَتَهُ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ بِغَيْرِ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرِيدُنَا.قَالَ: " أَجَلْ "، قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ حَقٌّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَكَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ نَلْقَى عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدُقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ.فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ الْآنَ مَصَارِعَ الْقَوْمِ ".قَالَ: وَمَضَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلُوا بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْوَادِي، وَالْقُلُبُ بِبَدْرٍ فِي الْعُدْوَةِ الدُّنْيَا مِنْ بَطْنِ التَّلِّ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّمَاءَ، وَكَانَ الْوَادِي دَهِسًا، فَأَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ مِنْهَا مَا لَبَّدَ لَهُمُ الْأَرْضَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الْمَسِيرِ، وَأَصَابَ قُرَيْشًا مِنْهَا مَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا مَعَهُ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُبَادِرُهُمْ إِلَى الْمَاءِ حَتَّى نَزَلَ بَدْرًا فَسَبَقَ قُرَيْشًا إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نَزَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّاهُ وَلَا نُقَصِّرُ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ "، فَقَالَ الْحُبَابُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، وَلَكِنِ انْهَضْ حَتَّى تَجْعَلَ الْقُلُبَ كُلَّهَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِكَ، ثُمَّ غَوِّرْ كُلَّ قَلِيبٍ بِهَا إِلَّا قَلِيبًا وَاحِدًا، ثُمَّ احْفِرْ عَلَيْهِ حَوْضًا، فَنُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ: " قَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ "، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَغُوِّرَتِ الْقُلُبُ، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً، ثُمَّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ.وَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أَصْبَحَتْ يَقْدُمُهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ، فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْحَطُّونَ مِنَ الْكَثِيبِ قَالَ: " اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَأَحْنِهِمُ الْغَدَاةَ " (¬1) .
وهذا كله من ثمرات التعريف والمعرفة .
- ونرى في القرآن الكريم أن الله - تعالى - قبل أن يكلف العباد بصلاة أو صيام أو أي أمر فإنه يناديهم أولاً بنداء محبب إلى قلوبهم وهو: " يا أيها الذين آمنوا " ثم بعدها: افعلوا كذا أولا تفعلوا.{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (153) سورة البقرة.
أي: يا من عرفتم ربكم وآمنتم به، أطيعوا أمره فهو الذي يأمر وينهى.وها هو سيدنا يوسف - عليه السلام - قبل أن يفسر المنام للرجلين اللذين دخلا السجن معه، يدعوهم إلى الإيمان: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } (39) سورة يوسف.
- وماذا بعد التعريف ؟ بعد التعريف لا بد من فتح أعين الناس إلى الحق، فالدعوة لا بد لها من ثلاث مراحل :
1- مرحلة التعريف والتبشير بالفكرة .
2- مرحلة التكوين وتخيّر الدعاة وتربيتهم .
3- مرحلة التنفيذ والعمل والدعوة الواعية .
لذلك لا نستعجل قطف الثمرة قبل أوانها ونضجها، ولا بد لنا من قوة نفسية تتمثل في إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يتلوَّن، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره.وهكذا تأخذ مرحلة التعريف حقها، وحينئذٍ ما أيسر التكاليف على الناس !!
- مرحلة التعريف من أهم المراحل وأخطرها، لأنه إذا أحسن الداعي تقديم الدعوة والتعريف بها تفتَّحت كثير من قلوب الناس لها .
- الداعي لا يستطيع أن يلزم الناس بما يحمل، إنما يقنعهم بما يقول، والإقناع يحتاج إلى حسن العرض وبساطة القول وتوضيح الفهم، وتعريف بالدعوة قبل أن يكلفهم بأي شيء أو يُحَمِّلهم أية مسؤولية .
- قال الله - تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (19) سورة محمد .
نلاحظ في الآية أن التكليف قد سبقه التعريف بالله أولا ثم العمل تكليفاً، وهل يستغفر الله مستغفر إلا إذا عرف الله ؟.والقرآن الكريم نزل في بداية الأمر ليعرف الناس بأمور أربعة قبل أن يكلفهم بأي أمر، وهي :
1- عرّفهم بربهم ليعبدوه .
2- عرّفهم بأنفسهم ليبصروا حقيقة وجودهم .
3- عرّفهم بالكون ليسخروه ويعمروه .
4- عرّفهم بالمصير الذي ينتظرهم في أخراهم .
- إن الإنسان المدعو إذا عرف من هو الله - تعالى - فإنه سيوقر أمره، حتى في دقائق الأمور.عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ، فَوْقَ صَوْتِ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2 ] قَعَدَ ثَابِتٌ فِي الطَّرِيقِ يَبْكِي، فَمَرَّ بِهِ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا ثَابِتُ ؟ قَالَ: أَنَا رَفِيعُ الصَّوْتِ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا بُنَيَّ، أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا، وَتُقْتَلَ شَهِيدًا، وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ ؟ " قَالَ: رَضِيَتُ بِبُشْرَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَا أَرْفَعُ صَوْتِي أَبَدًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (3) سورة الحجرات. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ (¬1) .
- إذا مرض إنسان وذهب إلى الطبيب الذي يعرف مهارته، فإن قال له الطبيب افعل كذا أو كذا، أولا بد من قطع يدك أو رجلك، فإن المريض سيوافق، لأنه عرف الطبيب ومهارته، فكيف إذا عرف المدعو عظمة الله - تعالى - وكماله وقوته وحكمته ؟!
- التعريف بالدعوة والصبر عليها في غاية الأهمية ليصبح عندنا الفرد الذي يسارع إلى أوامر الله - تعالى - دون كسل أو ملل، ولنا في قصص الأنبياء والرسل - عليهم السلام - أوضح العبر.فسيدنا إبراهيم - عليه السلام - أمره الله- تعالى - أن يسكن ذريته بواد غير ذي زرع عند البيت الحرام، وسيدنا إسماعيل - عليه السلام - حين رأى أبوه في المنام أنه يذبحه قال: { يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (102) سورة الصافات، وأم موسى - عليهما السلام - ألقت طفلها في اليم حين خافت عليه طاعةً لأمر الله - تعالى - وما ترددت .
- إن التعريف الحق يؤدي إلى الطاعة، أي أن الطاعة ثمرة المعرفة، فها هن الصحابيات يسارعن إلى أمر الله في اللباس بعد أن عرفن الله، فعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ,"قَالَتْ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَذَكَرَتْ نِسَاءَ قُرَيْشٍ وَفَضْلَهُنَّ, فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ لِنِسَاءِ قُرَيْشٍ لَفَضْلا, وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ أَشَدَّ تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ, وَلا إِيمَانًا بِالتَّنْزِيلِ لَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ: " وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ " انْقَلَبَ رِجَالُهُنَّ إِلَيْهِنَّ يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِنَّ فِيهَا, وَيَتْلُو الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ, وَعَلَى كُلِّ ذِي قَرَابَتِهِ, مَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلا قَامَتْ إِلَى مِرْطِهَا الْمُرَحَّلِ فَاعْتَجَرَتْ بِهِ تَصْدِيقًا وَإِيمَانًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابِهِ, فَأَصْبَحْنَ يُصَلِّينَ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ مُعْتِجِرَاتٍ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ" (¬2) .
وها هم الصحابة يسارعون إلى إراقة الخمور بعد أن أمرهم الله - سبحانه - فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}، قَالَ: فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَقَامَ الصَّلاةَ نَادَى: أَنْ لاَ يَقْرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكْرَانُ فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا (¬1) .
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّى بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ خَلَعُوا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ :« مَا لَكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ؟ ». قَالُوا: رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا. قَالَ :« إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَخْبَرَنِى أَنَّ بِهِمَا قَذَرًا - فَقَالَ - إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى نَعْلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذًى أَوْ قَالَ قَذَرًا فَلْيُمِطْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا » (¬2) .
ومواقف الصحابة كثيرة، فعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لَقَدْ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ مَشْهَدًا لأَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ رَجُلاً فَارِسًا، قَالَ: فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا نَبِيَّ اللهِ، وَاللَّهِ لاَ نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى - صلى الله عليه وسلم - : {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، وَلَكِنْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَكُونَنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَمِنْ خَلْفِكَ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ " (¬3) .
وعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، فَبَعْضُهُمْ قَدْ حَدَّثَ بِمَا لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ بَعْضٌ، وَقَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ فِيمَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ، قَالُوا: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا مِنْ قُرَيْشٍ تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّامِ فِيهِمْ: مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ لَهُمْ: " هَذَا أَبُو سُفْيَانَ قَافِلًا بِتِجَارَةِ قُرَيْشٍ، فَاخْرُجُوا لَهَا لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَفِّلُكُمُوهَا "، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُسْلِمُونَ، فَخَفَّ مَعَهُ رِجَالٌ وَأَبْطَأَ آخَرُونَ، وَذَلِكَ إِنَّمَا كَانَتْ نَدْبَةً لِمَالٍ يُصِيبُونَهُ لَا يَظُنُّونَ أَنْ يَلْقَوْا حَرْبًا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ وَنَيِّفٍ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ مُشَاةٌ، مَعَهُمْ ثَمَانُونَ بَعِيرًا وَفَرَسٌ، وَيَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ لِلْمِقْدَادِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ وَمَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ بَعِيرٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نَقْبِ بَنِي دِينَارٍ مِنَ الْحَرَّةِ عَلَى الْعَقِيقِ، فَذَكَرَ طُرُقَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِعِرْقِ الظَّبْيَةِ لَقِيَ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ، فَسَأَلُوهُ عَنِ النَّاسِ، فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهُ خَبَرًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ دَنَا مِنَ الْحِجَازِ يَتَحَسَّسُ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُ عَنْهَا حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ، فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ، فَبَعَثَهُ إِلَى قُرَيْشٍ يَسْتَنْفِرُهُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ، فَخَرَجَ ضَمْضَمٌ سَرِيعًا حَتَّى قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اللَّطِيمَةَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ - وَالَلَّطِيمَةُ هِيَ التِّجَارَةُ - الْغَوْثَ الْغَوْثَ، وَمَا أَظُنُّ أَنْ تُدْرِكُوهَا.فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: أَيَظُنُّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهَا كَائِنَةٌ كَعِيرِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فَخَرَجُوا عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهَا أَحَدٌ، إِلَّا أَنَّ أَبَا لَهَبٍ قَدْ تَخَلَّفَ وَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ مُقَاتِلًا، وَمَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ يَقُودُونَهَا، وَخَرَجُوا مَعَهُمْ بِالْقِيَانِ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، وَيَتَغَنَّيْنَ بِهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَسْمَاءَ الْمُطْعِمِينَ مِنْهُمْ، وَذَكَرَ رُجُوعَ طَالِبِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْجُحْفَةِ رَأَى جُهَيْمُ بْنُ الصَّلْتِ رُؤْيَا فَبَلَغَتْ أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ: وَهَذَا نَبِيٌّ آخَرُ مِنْ بَنِيِّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى أَنَّ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى قُرَيْشٍ مَعَهُ بَعِيرٌ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْعَسْكَرِ فَقَالَ: قُتِلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، يُعَدِّدُ رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ طَعَنَ فِي لَبَّةِ بَعِيرِهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَلَمْ يَبْقَ خِبَاءٌ مِنْ أَخْبِيَةِ قُرَيْشٍ إِلَّا أَصَابَهُ دَمُهُ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ، فَذَكَرَ مَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الصَّفْرَاءِ بَعَثَ بَسْبَسَ بْنَ عَمْرٍو وَعَدِيَّ بْنَ أَبِي الزَّغْبَاءِ الْجُهَنِيَّيْنِ يَلْتَمِسَانِ الْخَبَرَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، فَانْطَلَقَا حَتَّى وَرَدَا بَدْرًا، فَأَنَاخَا بَعِيرَيْهِمَا إِلَى تَلٍّ مِنَ الْبَطْحَاءِ وَاسْتَقَيَا فِي شَنٍّ لَهُمَا مِنَ الْمَاءِ، فَسَمِعَا جَارِيَتَيْنِ تَقُولُ إِحْدَاهُمَا لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا تَأْتِي الْعِيرُ غَدًا، فَلَخَّصَ بَيْنَهُمَا مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو وَقَالَ: صَدَقَتْ، وَسَمِعَ ذَلِكَ بَسْبَسٌ وَعَدِيٌّ، فَجَلَسَا عَلَى بَعِيرَيْهِمَا حَتَّى أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ، وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ وَلَّيَا وَقَدْ حَذِرَ، فَتَقَدَّمَ أَمَامَ عِيرِهِ فَقَالَ لِمَجْدِيِّ بْنِ عَمْرٍو: هَلْ أَحْسَسْتَ عَلَى هَذَا الْمَاءِ مِنْ أَحَدٍ تُنْكِرُهُ ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، إِلَّا أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَاكِبَيْنِ أَنَاخَا إِلَى هَذَا التَّلِّ فَاسْتَقَيَا فِي شَنٍّ لَهُمَا ثُمَّ انْطَلَقَا، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ مَنَاخَ بَعِيرَيْهِمَا فَأَخَذَ مِنْ أَبْعَارِهِمَا وَفَتَّهُ فَإِذَا فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ عَلَائِفُ يَثْرِبَ، ثُمَّ رَجَعَ سَرِيعًا فَضَرَبَ وَجْهَ عِيرِهِ فَانْطَلَقَ بِهَا مُسَاحِلًا، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدْ أَحْرَزَ عِيرَهُ بَعَثَ إِلَى قُرَيْشٍ أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَجَّى عِيرَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَرِجَالَكُمْ فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَأْتِيَ بَدْرًا - وَكَانَتْ بَدْرٌ سُوقًا مِنْ أَسْوَاقِ الْعَرَبِ - فَنُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا، فَنُطْعِمَ بِهَا الطَّعَامَ، وَنَنْحَرَ بِهَا الْجُزُرَ، وَنَسْقِيَ بِهَا الْخَمْرَ، وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعَ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا بَعْدَهَا أَبَدًا.قَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ: يَا مَعْشَرَ بَنِي زُهْرَةَ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَجَّى أَمْوَالَكُمْ، وَنَجَّى صَاحِبَكُمْ، فَارْجِعُوا.فَأَطَاعُوهُ فَرَجَعَتْ زُهْرَةُ فَلَمْ يَشْهَدُوهَا، وَلَا بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَذَكَرَ مَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ وَادِي ذَفَارٍ نَزَلَ وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنهم - فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ، فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ.فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مَنْ دُونَهُ حَتَّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْرًا وَدَعَا لَهُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ " وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَدَدُ النَّاسِ، وَكَانُوا حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذِمَمِنَا، نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ
مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّفُ أَنْ لَا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى أَنَّ عَلَيْهَا نُصْرَتَهُ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ بِغَيْرِ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرِيدُنَا.قَالَ: " أَجَلْ "، قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ حَقٌّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَكَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ نَلْقَى عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدُقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ.فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ الْآنَ مَصَارِعَ الْقَوْمِ ".قَالَ: وَمَضَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلُوا بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْوَادِي، وَالْقُلُبُ بِبَدْرٍ فِي الْعُدْوَةِ الدُّنْيَا مِنْ بَطْنِ التَّلِّ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّمَاءَ، وَكَانَ الْوَادِي دَهِسًا، فَأَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ مِنْهَا مَا لَبَّدَ لَهُمُ الْأَرْضَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الْمَسِيرِ، وَأَصَابَ قُرَيْشًا مِنْهَا مَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا مَعَهُ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُبَادِرُهُمْ إِلَى الْمَاءِ حَتَّى نَزَلَ بَدْرًا فَسَبَقَ قُرَيْشًا إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نَزَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّاهُ وَلَا نُقَصِّرُ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ "، فَقَالَ الْحُبَابُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، وَلَكِنِ انْهَضْ حَتَّى تَجْعَلَ الْقُلُبَ كُلَّهَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِكَ، ثُمَّ غَوِّرْ كُلَّ قَلِيبٍ بِهَا إِلَّا قَلِيبًا وَاحِدًا، ثُمَّ احْفِرْ عَلَيْهِ حَوْضًا، فَنُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ: " قَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ "، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَغُوِّرَتِ الْقُلُبُ، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً، ثُمَّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ.وَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أَصْبَحَتْ يَقْدُمُهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ، فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْحَطُّونَ مِنَ الْكَثِيبِ قَالَ: " اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَأَحْنِهِمُ الْغَدَاةَ " (¬1) .
وهذا كله من ثمرات التعريف والمعرفة .
- ونرى في القرآن الكريم أن الله - تعالى - قبل أن يكلف العباد بصلاة أو صيام أو أي أمر فإنه يناديهم أولاً بنداء محبب إلى قلوبهم وهو: " يا أيها الذين آمنوا " ثم بعدها: افعلوا كذا أولا تفعلوا.{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (153) سورة البقرة.
أي: يا من عرفتم ربكم وآمنتم به، أطيعوا أمره فهو الذي يأمر وينهى.وها هو سيدنا يوسف - عليه السلام - قبل أن يفسر المنام للرجلين اللذين دخلا السجن معه، يدعوهم إلى الإيمان: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } (39) سورة يوسف.
- وماذا بعد التعريف ؟ بعد التعريف لا بد من فتح أعين الناس إلى الحق، فالدعوة لا بد لها من ثلاث مراحل :
1- مرحلة التعريف والتبشير بالفكرة .
2- مرحلة التكوين وتخيّر الدعاة وتربيتهم .
3- مرحلة التنفيذ والعمل والدعوة الواعية .
لذلك لا نستعجل قطف الثمرة قبل أوانها ونضجها، ولا بد لنا من قوة نفسية تتمثل في إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يتلوَّن، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره.وهكذا تأخذ مرحلة التعريف حقها، وحينئذٍ ما أيسر التكاليف على الناس !!
أحمد سالم- عضو فعال
- عدد الرسائل : 71
نقاط : 75
تاريخ التسجيل : 02/07/2008
رد: * سلسلة مواعظ للدعاة *
موضوع قيم ومفيد بارك الله فيك
poline- عضو متألق
- عدد الرسائل : 152
البلد : الجزائر
الأوسمة :
نقاط : 10
تاريخ التسجيل : 17/06/2008
رد: * سلسلة مواعظ للدعاة *
نشكرك على المساهمة الاكثر من الرائعة
abourofaida- مشرف القسم الرياضي
- عدد الرسائل : 164
العمر : 54
الأوسمة :
نقاط : 81
تاريخ التسجيل : 06/07/2008
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأربعاء يناير 11, 2012 2:52 am من طرف ساري عبد
» اقوال و رسائل ..... دينيه جميله
الأربعاء يناير 11, 2012 2:30 am من طرف ساري عبد
» the best islamic sites
الجمعة يونيو 17, 2011 1:12 pm من طرف take5
» نعم..... و لا......
الثلاثاء يونيو 14, 2011 1:46 am من طرف علال زاير
» احييكم على الإستمرارية
الخميس مارس 03, 2011 12:51 am من طرف سالم بقادر
» على لسان زعيم عربي أنا السبب"
الأحد فبراير 13, 2011 1:44 am من طرف abourofaida
» lahbib habab salam alikom
الجمعة يناير 28, 2011 2:30 pm من طرف abourofaida
» وجه الاعجازفي مرج البحرين
الأربعاء يناير 26, 2011 8:53 pm من طرف hitem
» مرحبا بالرواحل الجدد
الأربعاء أكتوبر 20, 2010 8:27 pm من طرف أميمة